كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مطلب:
وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري، والحيوان الإنسي يختلف ذلك فيه، بحسب مقتنيه، اختلافًا كثيرًا، فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق، وإيثار نوع من العلف على غيره، ومكان مخصوص على غيره، وإلزام الحيوان أنواعًا من الأعمال والرياضة دون غيرها، فيختلف الحيوان الإنسي بحسب ذلك، ثم يتصل ذلك بالنُّطف في التوليد، مضافًا إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف، والحيوان الوحشي سلم عن جميع ذلك، فتشابهت أفراد نوعه، ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة، فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين، ولا التمييز بين الشيئين، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى عليه السلام دون شبهه أو مثله- ليس مدركًا بالحس، وإذا لم يكن مدركًا بالحس، جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى عليه السلام شبهه في غيره، كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيرها، ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه، وهو اللائق بكريم آلائه، في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه وإذا جوز العقل مثل هذا مع أن الحس لا مدخل له في ذلك، بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالمًا عن المعارض، مؤيدًا بكل حجة، وسقط السؤال بالكلية.
وثانيها: سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين، والتمييز بين الشبهين، ولكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويدل على أنهم ليسوا كذلك، أن الحواريين فروا عنه، لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود، فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم، لا يفيد علمًا بل هو ظن وتخمين لا عبرة به، لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} أي: هم لا يتيقنون ذلك، بل يحزرون بالظن والتخمين، وأما من جهة الملة اليهودية، فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة، وذلك في مجرى العادة يكون نفرًا قليلًا، كالاثنين أو الثلاثة ونحوها، يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر، فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد، سقط اعتبارها في إفادة العلم، لجواز كذب الناقل، فلا يكون عدد التواتر حاصلًا في نفس الأمر، والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل، ولا يوجد يهودي ولا نصراني على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل، عدلًا عن عدل، إلى موسى وعيسى عليهما السلام، وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل، فأولى أن يتعذر التواتر، ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جدًا، بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها، لقرب عهدها، مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ، فضلًا عن أصول الأديان، وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد، في غاية الضعف- كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف، لأن الفرع لا يزيد على الأصل.
وثالثها: أن نصوص الإنجيل مُشعرة بعدم صلب عيسى عليه السلام بخصوصه، كما نقلنا بعضًا آنفًا.
وقال في تخجيل الأناجيل: فيقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه، أتنقلونه من تواتر أم آحادًا؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة، ولم يثبت العلم الضروري، إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك، فلا يحتج بهم في القطعيات، وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به، وهو المصلوب، وعلموا أنه هو ضرورة، فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر، فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة، أكذبتم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم، إذ قال لهم نقلتها الذين دوّنوها لهم وعليها معولهم: إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه، فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم، ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد، ولما دخل الدار اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته، فقالت: هذا كان مع يسوع، فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله، وخادعهم حتى تركوه، وذهب ولم يكد يذهب، وأن شابًا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به، فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانًا، فهؤلاء أصحابه وأتباعه، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم، وأما أعداؤه اليهود، الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر، فلم يبلغوا عدد التواتر، بل كانوا آحادًا وأفرادًا، لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصًا على خشبة ومعه لصان مصلوبان، ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم، وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضًا، ففي الإصحاح الثاني والعشرين من إنجيل لوقا ما لفظه: فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم، وقالوا له: إن كنت أنت المسيح فقل لنا: فقال لهم: إن قلت لكم لم تؤمنوا لي، وإن سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني. انتهى.
وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته، على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم يمكن تواطؤهم على الكذب، لأنهم لما لم يجدوه هو، ولم يعلموا محل المسيح، وكان ذلك من تلاميذه، واستحلوا قتله أيضًا، أشاعوا أنه هو المسيح ليترك الناس متابعته، ولئلا يتخذوا المسيح نبيًا، وصمموا، أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضًا، يعملون به كما عملوا بصاحبه، ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراسًا لئلا ينبش القبر ويُرى أنه غير المسيح، ومما يزيد الأمر وضوحًا قول إنجيل متى في (الإصحاح الثامن والعشرين): أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكًا قد نزل من السماء برّجة عظيمة، فدحرج الحجر عن فم القبر، وجلس عنده، فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته، وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة، فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام، فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود، كما أنهم ستروا الآية التي ذكرتم، صلبوا شخصًا من أتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح، فإذا تبين عدم الاحتجاج بإجماع اليهود، والنصارى الآن على صلبه، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية، فأما العقل فلا يجوز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده، وهم اليهود، ويضربونه ويعملون به ما هو محرر في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة، مع أنه يفرّ منهم مرات كثيرة ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله: أجز عني هذه الكاس، ويصرخ ويقول: إلهي! إلهي! لم تركتني؟ ويسلم روحه، وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه، فيعطوه خلًا بدله، وأي خلاص لعباده في هذه الحالة، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة، بل صار موقعًا لهم في الإثم بسبب عدم إيمانهم به، فكيف يكون مخلصًا بنفسه؟
وأما النقل، فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها، والدلالة على عدم المعرفة به، وعدم وجوده في قبره، والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سُلَيم قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ} وأما قول متى في (الإصحاح السابع والعشرين): فصرخ يسوع أيضًا بصوت عظيم واسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشقت إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا للكثيرين- فهو قول بهت ومحال، لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال، لأنه لو كان صحيحًا لأطبق الناس على نقله، ولم يتفق إخفاء مثله، ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، فحيث داموا على الجحد له والتكذيب، دلّ على كذب ما نقله عَبَّاد الصليب، وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة، كما علمت سابقًا، لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع، كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة؟ وتقوم الأموات من قبورها؟ ويدخلون المدينة؟ ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك؟ وأيضًا، ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم؟ فهل كان استبشارًا بمصابه؟ فهم إذ ذاك ليسوا من أحبابه، أو كان جزعًا على مماته؟ وخرجوا إعانة له قبل فواته؟ فواعجبًا لرب أحياهم بعد أن كانوا رفات، ولم يعينوه حتى قضى ومات، وأحيي الرمم، وصرخ عند تسليم الروح، ولم يقدر على إبراء ما فيه من جروح، وليت شعري ما عمل هؤلاء القديسون؟ أبقوا في المدينة المقدسة؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون؟ وهل التأم الهيكل والصخور؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور؟
فإن قيل: إنما لم يشتهر ذلك، لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم أحد خوفًا من اليهود، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسدًا وبغيًا، قلنا: مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت، علمها من حضر ومن غاب، من الأعداء والأحباب، لأنها آيات نهارية، ومعجزات تشتهر في البرية، ويتناقلها أهل البلدان، وتبقى مؤرخة بكل لسان، في سائر الملل بكل أرض وزمان، فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال، مما اخترعها وحررها أئمة الضلال، ليخدعوا بها ضعفاء العقول، ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول. انتهى.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله فكتابه الملل عند الكلام على النصارى: وممّا يعترض به علينا اليهود والنصارى ومن ذهب إلى إسقاط الكوافّ (جمع كافة) من سائر الملحدين: أن قال قائلهم: قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل، وجاء القرآن بأنه (ص) لم يقتل ولم يصلب. فقولوا لنا كيف كان هذا؟
فإن جوّزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل، فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه.
فإن قلتم: اشتبه عليهم، فلم يتعمدوا نقل الباطل، فقد جوّزتم التلبيس على الكواف، فلعل كافتكم أيضًا ملتبس عليها. فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم.
وقولوا لنا: كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله؟ فإن قلتم: كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه، وجب من قولكم الإقرار أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل، وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدّين به، وفي هذا ما فيه.
وإن قلتم كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه، فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف، وفي هذا إبطال قول كافتكم، بل إبطال جميع الشرائع، بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم؛ ووقعتم، وفي هذا ما فيه.
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى. ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بيانًا لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته.
فنقول وبالله التوفيق: إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافَّةٌ، ولا صحَّ بالخبر قط؛ لأن الكافّة التي يلزم قبول نقلها هي: إمَّا الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لِتَنَابُذِ طرقهم، وعدم التقائهم، وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة، أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعدًا.
وإمّا أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤوا عليه، فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه، فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما، وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة، فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها، ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه، وسواء كانوا عدولًا أو فساقًا أو كفَّارًا وما عدا هذا من الخبر فليس كافة، ولا يضطر سامعه إلى تصديقه، وسواء أكانوا عدولًا أم غير عدول زيادة في الأصل ولا يقطع على صحته إلا ببرهان. فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلًا بعد جيل إلى الذين ادّعوا مشاهدة صلبه، فإنَّ هنالك تبدّلت الصفة ورجعت إلى شُرَطٍ مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل.
والنصارى مقرّون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارًا خوف العامة، وإنما أخذوه ليلًا عند افتراق الناس عن الفصح، وأنه لم يبق في الخشبة إلاَّ ست ساعات من النهار، وأنه أنزل إثر ذلك، وأنه لم يصلب إلاَّ في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار، ليس موضعًا معروفًا بصلب من يصلب، ولا موقوفًا لذلك، وأنه بعد هذا كله رُشِيَ الشُّرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك، وإن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة، لم تقدم على حضور موضع صلبه، بل كانت واقفة على بعد تنظر، هذا كله في نص الإنجيل عندهم، فبطل أن يكون صلبه منقولًا بكافة، بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه.